تخفي لوحة التشكيلي العراقي، صبيح كلش، أكثر مما تعلن، وتشي
أكثر مما تقول، وعلى الرغم من ذلك الزخم اللوني والرمزي والحكائي الذي تحفل
به اللوحات إلا أنها لا تعطي نفسها ومدلولاتها بسهولة، ومن هنا فإن أعمال هذا
الفنان قد تكون مغرية لقراءات سطحية تهمل حجم الاشتغال الكبير والحرفي الذي
تنهض عليه اعمال كلش، لمصلحة وضعها في مدار تأويلي مرتبط فقط بقضايا الانسان
العربي وهمومه التي لا تنتهي. ومن هنا فإن القيمة التصويرية لأعمال هذا
المعرض، الذي تستضيفه مؤسسة العويس الثقافية في دبي، ليست إلا وجها واحدا من
وجوه لعبة كلش الفنية التي تشبه رحلة بين تراكمات من الرموز والاشارات
والمضامين.
أول ما يلفت في أعمال هذا الفنان هو ذلك التنوع في
المفردات والعناصر البصرية والألوان، وتلك الايقاعية التي تؤاخي بين هذه
العناصر وتقودها نحو جدلية وحوارية مع الراهن والتاريخ، مع رصد لا يخلو من
توثيقية للكثير من التغيرات العميقة التي شهدتها المنطقة، على امتداد السنوات
القليلة الماضية، من دون ان تكون هناك محاكمات ونتائج قطعية، بل هي حوارية
جمعية يجريها كلش تتجلى بأشكال عدة، منها تقنيات سطح اللوحة المختلفة من عمل
إلى آخر ، تطويعه لخامات تبرز الموضوع المحوري في العمل وتجعله بملمس إشاري
يقوي الصنعة التصويرية، ويعطيها بعداً يتجاوز التجسيد المباشر لمصلحة الاشارة
والدلالة، في بنية لا تخلو من التضاد في العلاقات الداخلية للعمل، على الرغم
من التناغم والتماسك اللذين تظهر فيهما لوحته المشبعة بالألوان والحرفية
والرموز واللقى، وغيرها من المكونات التي تنهض في بنائية العمل وحكائيته، على
المستويين الخاص والعام.
تقنيات
وليس في
أعمال كلش، الذي أقام معرضه الفردي الاول عام 1970 في تشيكوسلوفاكيا
«سابقا» ما تصنعه الصدفة، وما تمليه الانفعالات الفنية، فلوحاته مساحة
للإشتغال والتأسيس والارتحال بين تقنيات ومدرسيات عدة، حيث تخالف اللوحة
الأخرى، وترتحل التجارب بين مزاجيات ومناخات وحرفيات متغيرة، يبدو أن الناظم
الوحيد لها هو الايقاع، ومحاولة الوصول الى روحية فنية تعكس ذلك القلق
المتجذر في حياتنا، وتنصهر في الوقت نفسه مع جوهر الزمن الراهن بتغيراته
وانقلاباته الدائمة والمحيرة.
ومن هنا، فإن إتكائيات كلش على أكثر من
مدرسة، ومؤثر فني، كالرمزية والتجريد والتعبيرية المكثفة وحتى التشخيصية، ما
هو إلا تأكيد على علاقة هذا الفنان بروحية واقعه، ومحاولته جعل أعماله حلقات
تواصل مع تركة فنية عالمية ثقيلة، وموروث تراثي وحضاري عربي وإسلامي، مع
التأكيد على أن هذا الاستخدام لا يأتي في سياق التجارب التي حاولت تعريب
اللوحة التشكيلية، بقدر ما هي محاولة ترويض وصهر جميع هذه المعطيات في عمل
فني ينتمي الى الحياة بصورة عامة وليس الى عرق أو انتماء
جغرافي.
بيئات
كلش الحاصل على درجة
الدكتوراه في الفنون من جامعة السوربون في باريس يعمل على انجاز مشهديات
تستمد عناصرها من بيئات مختلفة عبر تكوينات واشكال تتسم بعض جوانبها بزخرفية
وألوان منها ما يحمل بعداً سطحياً واحداً، ومنها ما هو مشبع بالاشتغال، وفق
علاقات هارمونية بين الكتل التي تتأسس في بنائية محكمة ومنفتحة على حساسيات
لونية تتدرج بين الشفافية والقوة، وتتعدد مستوياتها في لعبة بصرية ثلاثية
الابعاد تتدرج فيها الأزمنة الحكائية والحبكة الدرامية أو تتمرحل فيها
المضامين بين ما هو أساسي ومحوري وبين ما يمكن تهميشه وتشويشه وما يصلح
لتزيين المساحات الكبيرة، أو خلق ذلك الافق المتسع والمريح، أو لجعل جميع
عناصر ومستويات اللوحة متكاتفة لخدمة الكتلة الاساسية والموضوع المحوري
للعمل. تقوم كل لوحة من لوحات كلش على وحدتها الفنية الخاصة، هذا الوحدات
تجتمع في نهاية المطاف لخلق تركيبات متجانسة وايقاعات تخدم الشكل المجسد،
وتبرز في بعض الرسومات تلك الزخرفيات والتفصيلات التي تستمد جمالياتها من
قوتها الداخلية ومرجعيتها الحضارية الاسطورية. وخصوصاً في مجموعة اللوحات
التي حملت عنوان ثلاثية الجوع التي تناقش مفهوم العدالة البشرية في امتلاك
الثروات التي هي ملك للجميع وليست حكراً على شريحة معينة، وبصورة عامة، فإن
اعمال هذا الفنان تنهض من موروث بصري عريق وتستند إلى مرجعيات فكرية خاصة به،
وإلى قيم بحثية في هوية خصوصية الفنون المعاصرة الحديثة وربطها بشكل وبآخر في
التاريخ بعد مراجعته وتصفيته من شوائبه السلبية المضللة.
عالم متغير
قال الفنان
التشكيلي العراقي، الدكتور صبيح كلش، في كتيب المعرض «لا تخلو أعمالي من خطوط
وكتل من الهندسة المقصودة، خالقاً بها عالماً يجسد واقعية الحديث والقديم،
ابتعدت عن التكرار الذي اعتاد عليه الكثير من الفنانين، واعتمدت التنويع
لأمنح المتلقي رؤى جديدة يزاوج بها التراث والحضارة بالواقع الحالي.
لوحات كلش حكايات يندمج فيها الماضي
بالحاضر.